منذ أن رأيتُ الأشياء تتلاشى أمامي، ولم أستطع القبض عليها، فكرت بالكتابة، تلك التي تجعلك تقتنص حقوقك اقتناصًا، وتعوضك عن الندم. الكتابة الحقيقة التي عاش لأجلها الأدباء الحقيقيون، وأخلصوا لها، ولم يبيعوا ويشتروا فيها.. بل ظلوا يبنون الكلمات، ويربونها كما يربي المهرج صغار الدلافين.
لا شيء نستطيع أن نضرب به جمجمة الوجود، هذا الكائن الشفافي واللامرئي الذي يعيش على شهقات الأموات الأخيرة.. فلا أداة يمكننا أن نصطاده بها إلا أداة واحدة هي الكتابة فقط، ولا شيء غير ذلك. الكتابة بالكلمات التي تشبه طعم الملح المتصبب من مسامات أرواحنا كل يوم.
منذ صغري وأنا شارد، أبحث عن حل لهذا اللغز الكبير، وعن معطيات لأطراف المعادلة الضائعة التي وضعتنا بالحافة الأخيرة. أفتش دون تلكؤ عن منبت الصوت الحقيقي وليس الصدى.
أن تكتب يعني أن تصف ذلك الشعور المضطرب داخلك بتلك الطريقة المعتادة، الطريقة التي تحرك فيها يديك نحو المجهول؛ لتحاولأن تقول شيئًا خارقًا لرجل متدين، يطلب منك تعريفًا للفلسفة.
هي أن تحاول إخراج الفكرة من رأسك كما لو أنها جثة طفل غريق، وأن تقول ما تود قوله للعالم بطريقة واضحة، وأن تشتم العالم بكلمات نابية حية، كتلك التي تطلقها كل ظهيرة داخلك بصمت. الكتابة أن تصرخ في وجه العالم، ولكن بالطريقة نفسها التي تشبهك تمامًا.