"يوم الفرقان" تغير سير القافلة بـ"بدر" فكان المدد بألف من الملائكة نصرًا للمسلمين

انتصر المسلمون.. وعامل الرسول الأسرى بالعفو والسماحة رغم أذيتهم له ولأصحابه
"يوم الفرقان" تغير سير القافلة بـ"بدر" فكان المدد بألف من الملائكة نصرًا للمسلمين

في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة (الموافق 13 مارس 624م، وقعت غزوة بدر التي تسمى أيضًا بـ غزوة بدر الكبرى وبدر القتال ويوم الفرقان، بين المسلمين بقيادة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم، وقبيلة قريش ومن حالفها من العرب بقيادة عمرو بن هشام " أبو جهل".

وتُعد غزوة بدر أول معركةٍ من معارك الإسلام الفاصلة وقد سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى منطقة بدر التي وقعت المعركة فيها وبدر بئرٌ مشهورة تقع بين مكة والمدينة المنورة.

وخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم وسلك طريقَه من المدينة إلى مكة يريد بدرًا، وهو موضع ماءٍ كانت تُعقدُ وتلتقي عنده بعض القوافل التجارية ويبعد عن المدينة بنحو مائة وستين كيلومترًا.

وكان جيش المسلمين بقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته، عددُهم ثلاثَمائة وأربعة عشر رجلاً من المهاجرين، وكانت إبلهم سبعين بعيرًا، وجعلوا يعتقبون عليها وهو أن يركب الواحد البعير مدة ثم ينزل ليعقبَه الآخر فيركبه فكان كل اثنين وكل ثلاثة وكل أربعة يعتقبون بعيرًا، وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - كسائر أصحابه فكان هو وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرًا وكان أبو بكر وعمر وعبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيرًا.

وتوقع المسلمون أن يلقوا قافلة أبي سفيان عند بدر غير أن أبا سفيان كان شديد الحذر إذ كان يتوقَّع خروج المسلمين للتعرُّض لقافلته ومن ثَمَّ فقد أخذ يستطلع أخبارهم حتى إذا تأكَّد من الخطر الذي يحيق بالقافلة، سارع إلى تغيير طريق سيره باتجاه الساحل، وبذلك فوَّت على المسلمين فرصةَ الاستيلاء على القافلة ثم قام بإرسال شخص من قبيلة غفارٍ إلى مكة ليستنفر قريشًا لنجدة أموالها.

وحين بلغتْ قريشًا أخبارُ تعرُّضِ قافلتِها للهجوم، هبَّت لنجدتها، وكان أشدَّهم حماسًا أبو جهل بن هشام الذي قال: والله، لا نرجِعُ حتى نَرِدَ بدرًا ونُقِيم عليه ثلاثًا، فننحر الجَزُورَ ونطعم ونستقي الخمر وتعزف علينا القيان (والمغنيات) وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدًا.

جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس الذين معه لاستشارتِهم فيما يفعل تجاه المشركين، فتحدَّث أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو من المهاجرين، فأبدوا استعدادهم التام للتضحية والجهاد، فقام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

وسكت الناس، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، ولم يبايعوه على حرب خارج مدينتهم، فلما أحسَّ الأنصار أنه يريدهم وكان سعد بن معاذ صاحبَ رأيهم التفت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: ((أجل))، فقال سعد - رضي الله عنه -: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخضناه معك ما تخلَّف منا رجل واحد إنَّا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله، ولم يكد سعد يتمُّ كلامَه حتى أشرق وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمسرة، وقال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وقد ارتحلوا جميعًا)).

وقال الله -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ والمعنى: نصركم الله وأنتم قليلو العدد والعدة؛ ليبين الله للمسلمين أن النصر يكون من عند الله.

وقال الله - تعالى -: ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ فقد وعد الله عباده المؤمنين أن يمدَّهم بنصرِه وبملائكتِه على قدر تقواهم، فكلما اشتد صبرُهم في قتالِ عدوِّهم وزاد توكُّلهم على الله سبحانه، زاد الله في مدده لهم، فينزل ملائكتَه عليهم مردفين متتابعين ألفًا بعد ألف، كما قال - تعالى - في سورة الأنفال: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ وقد أنزل الله - سبحانه - ملائكته لنصرِ المسلمين يوم بدرٍ مسوِّمين؛ أي: كانت لهم علامة في نواصي خيولهم.

قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وكانت سيما الملائكة يوم بدرٍ عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورِهم، ويوم حنين عمائم حمر، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، فكانوا ينزلون في معارك أُخرى إلا أنهم لم يشاركوا في القتال، بل يكونون عددًا ومددًا لا يضربون.

وقال الإمام أحمد عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لمَّا كان يومُ بدر، نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وهم ثلاثُمائة ونيِّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القِبْلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: ((اللهم أنجزْ لي ما وعدتني، اللهم إن تَهلِكْ هذه العصابةُ من أهل الإسلام فلا تُعبَد في الأرض أبدًا))، قال: فما يزال يستغيث ربَّه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر - رضي الله عنه - فأخذ رداءه فردَّه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سيُنجِز لك ما وعدك، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9]، فلما التقى الجمعان، هزم الله المشركين، فقُتِل سبعون رجلاً وأُسِر منهم سبعون رجلاً، وقد كان ذلك اليوم هو السابع عشر من رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة، في هذا اليوم نصر الله أهل الحق على أهل الباطل، وكان من بين قتلى المشركين: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأُمية بن خلف، وأبو جهل بن هشام.

وبعد أن انتصر المسلمون رجع المشركون إلى مكَّة خائبين أذلاء، أما المسلمون، فأقاموا في بدر إلى آخر النهار، ثم جمعوا الذين قُتلوا من المشركين فحفَروا لهم قَليبًا (أي بئرًا) فدفنوهم فيه، وقضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه تلك الليلة في الميدان، وسهر أصحابه على جمع الغنيمةِ والحفاظ على الأسرى، وراح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يفكِّر كيف نصر الله المسلمين على قلَّة عددِهم وكثرة عدد عدوِّهم، حتى سمِعه أصحابه في جوف الليل وهو يقول: ((يا أهل القَليبِ، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام))، واستمر يذكر مَن في القَليبِ من قتلى المشركين واحدًا بعد واحد، يا فلان ويا فلان، ((هل وجدتُم ما وعدكم ربكم حقًّا؟ فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا))، قال له صحابته: يا رسول الله، أتنادي قومًا جيفوا؟! فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني)).

وقد حرَّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - التمثيل بالأسرى حتى لو كان ثمة مسوِّغ، فقد ذكر ابن إسحاق أن عمر بن الخطاب قال للرسول: دعني انزع ثنيَّتي سهيل بن عمرو - أي: أسنانه الأمامية - ويدلع لسانه، فلا يقومُ عليك خطيبًا في موطن أبدًا، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أُمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا)).

واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر وعليًّا في شأن الأسرى ماذا يصنع بهم، ولم يشرع بعدُ في الإسلام معاملة الأسرى، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذَ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوَّة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ترى يا ابن الخطاب؟)) قال (والقصة هذه يرويها عمر - رضي الله عنه): قلت: والله، ما أرى ما رآه أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنِّي من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.

ولما فرغ أبو بكر وعمر من كلامهما، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبته فمكث فيها ساعة ثم خرج والناس يخوضون في شأنهم، يقف بعضهم في صف أبي بكر، ويقف آخرون في صف عمر، فشاور صحابتَه فيما يصنع، وضرب لهم في أبي بكر وفي عمر مثلاً، فأما أبو بكر، فمثله كمثل ميكال ينزل برضا الله وعفوه عن عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل، قدَّمه قومه إلى النار وطرحوه فيها، فما زاد على أن قال: ﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ وقال: ﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله، ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ وكمثل موسى إذ يقول: ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾

"لقد كان رأي أبي بكر الصديق أقرب إلى عقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلبه مما عُرِف عنه من ميل إلى العفو والسماحة، فقرر الأخذ برأيه، فأمر بحجز الأسرى ريثما تتم مفاداتهم أو إطلاق سراح غير القادرين على فداء أنفسهم منهم، ولم يحاول الرسول - صلى الله عليه وسلم - التشدُّد في شروط فداء الأسرى، بل قبِل من كل أسير ما يتناسب مع قدراته المالية، أما المُعْوِزون الفقراء الذين لا مال لهم، فقد منَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قسم منهم فأطلق سراحهم من دون فداء، وطلب من القسم الآخر الذين يحسنون القراءة والكتابة أن يعلِّم كل واحد منهم عشرة صبيان من أولاد الأنصار مقابل إطلاق سراحه.

وقد أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بحسن معاملة الأسرى، فقال: ((استوصوا بالأسرى خيرًا))؛ لذا فقد روي عن أبي العاص بن الربيع وكان من الذين أُسروا، وهو زوج زينب بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله: كنتُ مع رهط من الأنصار (وأنا أسيرٌ بينهم) جزاهم الله خيرًا، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل والتمر زادُهم (ويعني أنهم كانوا يفضلونه على أنفسهم بالطعام فيقدمون له الخبز ويحرمون أنفسهم منه)، وكان الوليد بن المغيرة - وهو أسير آخر - يقول مثل ذلك، وكانوا يحملوننا ويمشون.

وقد روي بشأن معاملة الأسرى أن أم سلمة زوجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاءت إليه تستأذن بشأن معاملة كل من خالد بن هشام بن المغيرة وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة - وهما ابنا عم لها - وكانا أسيرين، فقالت: يا رسول الله، إن بني عمي طلبوا أن يدخل بهم عليَّ، فأضيفهم وأدهن رؤوسهم وألمَّ شعثهم، ولم أحبَّ أفعل ذلك حتى استأمرك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لستُ أكره شيئًا من ذلك، فافعلي ما بدا لك)).

بهذه الروح الإنسانية عامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والرُّعيل الأول من المسلمين الأسرى الذين كانوا قد لقوا منهم في مكة أشدَّ الأذية والاضطهاد حتى اضطروهم إلى ترك بلدهم وأهليهم وأموالهم.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org