اللعب بمشاعر المحتاجين

اللعب بمشاعر المحتاجين

رُبِّينا منذ نعومة أظفارنا على الحكايات التراثية الأصيلة، التي غرست بأنفسنا القيم السامية والمبادئ النبيلة.. مثل أن يُخفي الرجل المتصدق وجهه وهو يضع صرة الدراهم أو الطعام أمام دار الأرملة المحتاجة وأطفالها الجياع، دون أن يكشف عن هويته أو سبب عطيته؛ كي لا يؤذي مشاعرهم؛ وذلك تماشيًا مع الهدي النبوي الشريف ".. ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، مكتفيًا بعبارته الزاهدة الخالصة لوجه الله تعالى: "هذا من فضل ربي وما أنا إلا (فاعل خير)"!

أما اليوم فيتسابق بعض مشاهير الغفلة إلى اقتناص القصص الإنسانية، إما لأسرة متعففة، أو لرجل قسمت ظهره الديون، أو لمريضة أنهكها الألم وطلب العلاج؛ ليبدأ الواحد منهم بشن حملته التسويقية المربحة لنفسه من خلال إعلان تفاصيل المعاناة بكل الحسابات التابعة والمؤيدة له؛ حتى تتلقفها إحدى الجهات الخيرية، التي تجدها هي الأخرى فرصة سانحة لإعلان نفسها مجانًا، ولعب دور البطولة والتربح من ورائها!!

ومع أنه لا مشهور الغفلة، ولا مسؤولة الجمعية الخيرية، دفعا ريالاً واحدًا من جيبَيهما، إلا أن كلاً منهما يصر على إبراز نفسه على أنه (فاعل خير)؛ لهذا يقومان دون حياء ولا مروءة بتحويل مقر تسليم التبرع أو الصدقة، الذي غالبًا ما يكون منزل الفقيرة، إلى استديو تصوير (طبعًا دون علمها كنوع من المفاجأة!!)؛ لتلاحق عدسة الكاميرا ملامحها وهي تذرف دموعها، وتجتر عبرتها، ليس فرحة بانجلاء همها -كما يشاع- بل حزنًا لإراقة ماء وجهها من قِبل هؤلاء المشاهير المراهقين!!

قد نلتمس على مضض العذر لمسؤول صاعد حين يحرص على دعوة صديقه الصحفي؛ ليركز الفلاشات عليه وهو يقص شريط افتتاح أحد المرافق الجديدة من أجل أن يلمع صورته.. قد نلتمس العذر لمشجع هاوٍ يصر على الوقوف خلف المذيع وهو يجري اللقاء مع اللاعبين حاملاً الجوال ليبلغ أصحابه بأن صورته طلعت بالتلفزيون..! لكننا لا يمكن أن نلتمس العذر لمن يتقمص دور (فاعل خير)، ويصوّر هبة غيره التي يُفترض أن تكون خالصة لوجه الله، وينشرها على الملأ؛ لأن هذا يحور نيته السليمة، ويصبغ عليها صفة الرياء والسمعة!!

إن تصوير المحتاجين لحظة تسلمهم المساعدة ليس أذى ومنَّة وقلة مروءة فقط، بل جرأة بالبجاحة، تشكل أكثر من مخالفة؛ بداية بالتشهير والإساءة كجريمة إلكترونية يفترض معاقبة الفاعلين عليها بالسجن أو الغرامة المقررة لها، ومرورًا بالاتجار بالبشر، وانتهاء بالأذى النفسي العميق الذي يخلفه في نفوس الأرملة أو ربِّ الأسرة أو الأبناء، سواء أمام أبناء الجيران، أو زملائهم في المدرسة.. وكل هذا تحت ذريعتهم الواهية: تحفيز الغير على المساعدة!!

كل الحجج الواهية لدواعي تصوير المحتاجين مردود عليها، سواء كانت الغاية منه تحفيز الغير للتصدق، أو كانت لإزالة الشكوك التي قد تدخل في نفوس المتبرعين؛ فنظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الجديد يوجب عدم الإنفاق إلا بتوقيع اثنين من المسؤولين بالجمعية مفوضَين من مجلس الإدارة، كما أنه يمكنهم التصوير والتوثيق والاحتفاظ بذلك لمن يريد أن يطمئن قلبه، لكن دون النشر والتشهير في حسابات يصل عدد المتابعين فيها للملايين؛ ما يؤثِّر سلبًا على كرامة الأسر المتعففة التي ما وصلت لهذا القدر من البؤس والفاقة إلا لتعففها عن السؤال، ثم يأتي مشهور الغفلة بكل جهل وصفاقة ليهد سمعتهم النقية بمقطع فيديو قصير، يفرد فيه عضلات شهرته وعلاقاته الواسعة!!

الكلام سهل، سواء للمشهور (المهايط) أو الجهلة المطبلين له، لكن ماذا لو دار الزمان كما كانت تخبرنا تلك الحكايات التراثية، وساءت حالته، وأراد ذلك الفقير رد جميله؟ هل سيرضى المشهور بأن يتم تصويره وهو يستلم الصدقة ويراق ماء وجهه أمام المجتمع؟.. أكاد أجزم بأنه سيستشيط غضبًا لمجرد التفكير في هذا الأمر المهول. ثم هل يصح أن ندرج بمناهج الدراسة قصص منتحلي صفة فاعل خير بهذا الزمن؛ لنغرس بنفوس الأجيال القادمة ونعلمها (الهياط) و(عدم احترام خصوصية الآخرين)، وقبل ذلك كله نؤصل فيهم الانتهازية والإثراء بلا سبب و(اللعب بمشاعر المحتاجين)؟!

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org